فصل: المقام الثالث في شبه المنكرين وردها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فلو قلنا مع القول بالصحة أنه لا يرى لكان قولا ثالثا خارقا للإجماع على عدم الافتراق بين الصحة والوقوع في النفي والإثبات، بل كلاهما مثبتان معا أو منفيان معا.
وهو أي هذا الاستدلال غير صحيح كما ذكره الآمدي لأن خرق الإجماع إثبات ما نفاه كما إذا ذهب بعض المجمعين إلى السالبة الكلية وآخرون إلى السالبة الجزئية.
فأحدث القول بالموجبة الكلية أو نفى ما أثبته كما إذا ذهب بعضهم إلى الموجبة الكلية وبعضهم إلى الجزئية.
فأحدث القول بالسالبة الكلية.
وأما إذا ذهب بعضهم إلى الموجبة الكلية وآخرون إلى السالبة الكلية.
فإحداث القول بالموجبة الجزئية والسالبة الجزئية معا ليس خارقا للإجماع.
إذ ليس بين القولين قدر مشترك.
بل هو تفصيل وموافقة لطائفة في إحدى المسألتين، والأخرى في أخرى كما فيما نحن بصدده.
وإليه أشار بقوله وهذا القول الثالث إنما هو التفصيل.
وهو القول بالجواز والقول بعدم الوقوع.
وشيء منهما لا يخالف الإجماع ولا يخرقه بل كل واحد من قولي التفصيل مما قال به طائفة من طائفتي المجمعين وإن كان خارقا لما قال به الطائفة الأخرى وذلك الذي ذكرناه في مسألتنا هذه كما في مسألة قتل المسلم بالذمي والحر بالعبد.
فإن القائل قائلان مثبت لهما معا كالحنفية وناف لهما معا كالشافعية والتفصيل بينهما مما لم يقل به أحد من الأمة.
ولكن لو قيل به لا يكون خارقا للإجماع بل موافقة للمثبت في مسألة.
وللنافي في مسألة أخرى ولا يكون هذا التفصيل ممنوعا عنه بل يكون جائزا بالإجماع فهذا المسلك في إثبات الوقوع مردود.
والمعتمد فيه مسلكان:
المسلك الأول قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة.
وجه الاحتجاج بالآية الكريمة إن النظر في اللغة جاء بمعنى الانتظار ويستعمل بغير صلة بل يتعدى بنفسه قال تعالى: {انظرونا نقتبس من نوركم} أي انتظرونا.
وقال: {ما ينظرون إلا صيحة واحدة} أي ما ينتظرون.
ومنه قوله تعالى: {فناظرة بم يرجع المرسلون} أي منتظرة.
وقول الشاعر:
وإن يك صدر هذا اليوم ولى ** فإن غدا لناظره قريب أي لمنتظره

وجاء بمعنى التفكر والاعتبار ويستعمل حينئذ بفي، يقال: نظرت في الأمر الفلاني أي تفكرت واعتبرت وجاء بمعنى الرأفة والتعطف ويستعمل حينئذ باللام.
يقال نظر الأمير لفلان أي رأف به وتعطف وجاء بمعنى الرؤية ويستعمل بإلى.
قال الشاعر:
نظرت إلى من أحسن الله وجهه ** فيا نظرة كادت على وامق يقضي

والنظر في الآية موصول بإلى فوجب حمله على الرؤية فتكون واقعة في ذلك اليوم، وهو المطلوب.
واعترض عليه بوجوه:
الأول لا نسلم أن لفظ إلى صلة للنظر بل هو واحد الآلاء ومفعول به للنظر بمعنى الانتظار.
فمعنى الآية نعمة ربها منتظرة.
ومنه قول الشاعر:
أبيض لا يرهب النزال ولا ** يقطع رحما ولا يخون إلى أي نعمة

ويقرب منه ما قد قيل إن إلى بمعنى عند كما في قوله:
فهل لكم فيما إلي فإنني ** طبيب بما أعيى النطاسي حذيما

أي فيما عندي ومعنى الآية حينئذ عند ربها منتظرة نعمته.
والجواب أن انتظار النعمة غم.
ومن ثمة قيل الانتظار الموت الأحمر.
فلا يصح الإخبار به بشارة مع أن الآية وردت مبشرة للمؤمنين بالإنعام والإكرام وحسن الحال وفراغ البال.
وذلك في رؤيته تعالى فإنها أجل النعم والكرامات المستتبعة لنضارة الوجه لا في الانتظار المؤدي إلى عبوسه.
الثاني إن النظر الموصول بإلى قد جاء للانتظار.
قال الشاعر:
وشعث ينظرون إلى بلال ** كما نظر الظماء حيا الغمام

ومن المعلوم أن العطاش ينتظرون مطر الغمام، فوجب حمل النظر المشبه على الانتظار ليصح التشبيه.
وقال:
وجوه ناظرات يوم بدر ** إلى الرحمن يأتي بالفلاح

أي منتظرات إتيانه بالنصر والفلاح.
وقال:
كل الخلائق ينظرون سجاله ** نظر الحجيج إلى طلوع هلال

أي ينتظرون عطاياه انتظار الحجاج ظهور الهلال.
والجواب لا نسلم أن النظر هاهنا أي فيما ذكر من الأمثلة للانتظار.
ففي الأول أي يرون بلالا كما يرى الظماء ماء يطلبونه ويشتاقون إليه ولا يمتنع حمل النظر المطلق عن الصلة كالمذكور في المشبه به على الرؤية بطريق الحذف والإيصال.
إنما الممتنع حمل الموصول ب إلى على غيرها أي غير الرؤية كالانتظار.
وفي الثاني أي ناظرات إلى آثاره أي آثار الله من الضرب والطعن الصادرين من الملائكة التي أرسلها الله تعالى لنصرة المؤمنين يوم بدر.
وذكر بعض الرواة أن الرواية هكذا وجوه ناظرات يوم بكر.
وأن قائله شاعر من أتباع مسيلمة الكذاب.
والمراد بيوم بكر يوم القتال مع بني حنيفة لأنهم بطن من بكر بن وائل.
وأراد بالرحمن مسيلمة.
وعلى هذا فالجواب ظاهر.
وفي الثالث أي يرون سجاله.
ويجوز النظر المجرد عن الصلة للرؤية كما مر آنفا.
وإن سلم مجيئه مع إلى للانتظار فلا يصح حمله عليه في الآية إذ لا يصح بشارة لما مر من أن انتظار النعمة غم ووصولها سرور.
الثالث من وجوه الاعتراض أن النظر مع إلى حقيقة لتقليب الحدقة لا للرؤية.
يقال نظرت إلى الهلال فما رأيته ولو كان بمعنى الرؤية لكان متناقضا.
ولم أزل انظر إلى الهلال حتى رأيته ولو حمل على الرؤية لكان الشيء غاية لنفسه.
وانظر كيف ينظر فلان إلي.
والرؤية لا ينظر إليها وإنما ينظر إلى تقليب الحدقة.
وقال تعالى: {وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} فالنظر الموصول ب إلى محمول على تقليب الحدقة لما ذكرنا ولأنه يوصف بالشدة والشزر والازورار والرضى والتجبر والذل والخشوع.
وشيء منها لا يصلح صفة للرؤية بل هي أحوال يكون عليها عين الناظر عند تقليب الحدقة نحو المرئي هذا كما ذكرناه.
وتقليب الحدقة ليس هو الرؤية وهو ظاهر.
فلا يكون النظر الموصول ب إلى حقيقة فيها.
وإلا لزم الاشتراك ولا ملزومها لزوما عقليا حتى يجب من تحققه تحققها بل لزوما عاديا مصححا للتجوز ثم نقول إنه للرؤية مجاز.
ولكنه مجاز لا يتعين كونه مرادا في الآية لجواز أن يراد ناظرة إلى نعم الله.
ولم أي ولأي شيء يترك هذا الإضمار إلى ذلك المجاز.
والجواب أن النظر مع إلى حقيقة للرؤية بالنقل الذي مر ذكره فلا يكون حقيقة وما استشهدتم به على كونه حقيقة لتقليب الحدقة لا يجدي نفعا إذ قوله نظرت إلى الهلال فما رأيته لم يصح نقله من العرب.
بل يقال نظرت إلى مطلع الهلال فلم أر الهلال.
وإن سلمناه قلنا ربما يحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه وهو الجواب عن قولهم لم أزل أنظر إلى الهلال حتى رأيته أي إلى مطلع الهلال والبواقي من الأمثلة كلها مجازات أي النظر فيها وقع مجازا عن تقليب الحدقة من باب إطلاق اسم المسبب الذي هو الرؤية على سببها الذي هو التقليب وعلى تقدير كون النظر حقيقة في التقليب الذي ليس بمراد يجب حمله في الآية على الرؤية مجازا لرجحانه على الإضمار الذي يحتمل وجوها كثيرة وإليه الإشارة بقوله مع أن الأشياء التي يمكن إضمارها كثيرة كنعمة الله وجهة الله وآثار الله ولا قرينة هاهنا معينة لبعضها فالتعيين تحكم لا يجوز لغة فوجب المصير إلى المجاز المتعين ثم نقول أيضا تقليب الحدقة طلبا للرؤية بدون الرؤية لا يكون نعمة بل فيه نوع عقوبة فلا يكون مرادا في الآية وتقليب الحدقة مع الرؤية يكفيه التجوز وحده فلا يضم إليه الإضمار تقليلا لما هو خلاف الأصل.
فإن تقليب الحدقة يكون سببا عاديا للرؤية وإطلاق اسم السبب للمسبب مجاز مشهور فلنحمل الآية على التجوز عن الرؤية بلا إضمار شيء.
وهو المطلوب.
وأنت لا يخفى عليك أن أمثال هذه الظواهر لا تفيد إلا ظنونا ضعيفة جدا.
وحينئذ لا تصلح هذه الظواهر للتعويل عليها في المسائل العلمية التي يطلب فيها اليقين.
المسلك الثاني في إثبات الوقوع قوله تعالى في الكفار كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ذكر ذلك تحقيرا لشأنهم.
فلزم منه كون المؤمنين مبرأين عنه فوجب أن لا يكونوا محجوبين عنه بل رائين له.
وهذا المسلك أيضا من الظواهر المفيدة للظن.
والمعتمد فيه أي في إثبات الوقوع.
بل وفي صحته أيضا إجماع الأمة قبل حدوث المخالفين على وقوع الرؤية المستلزم لصحتها وعلى كون هاتين الآيتين محمولتين على الظاهر المتبادر منهما.
ومثل هذا الإجمال مفيد لليقين.

.المقام الثالث في شبه المنكرين وردها:

وتنقسم تلك الشبه إلى عقلية ونقلية.
أما العقلية فثلاث:
الأولى شبهة الموانع وهي أن يقال لو جازت رؤيته تعالى لرأيناه الآن.
والتالي باطل بطلانا ظاهرا.
وأما بيان الشرطية فهو أنه لو جازت رؤيته تعالى لجازت في الحالات كلها لأنه أي جواز الرؤية حكم ثابت له.
إما لذاته أو لصفة لازمة لذاته فلا يتصور انفكاكه عنه في شيء من الأزمنة فجازت رؤيته الآن قطعا.
ولو جازت رؤيته الآن لزم أن نراه الآن لأنه إذا اجتمعت شرائط الرؤية في زمان وجب حصول الرؤية في ذلك الزمان وإلا لجاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة ونحن لا نراها.
وأنه سفسطة رافعة للثقة عن القطعيات وشرائط الرؤية ثمانية أمور:
الأول سلامة الحاسة ولذلك تختلف مراتب الإبصار بحسب اختلاف سلامة الإبصار.
وتنتفي بانتفائها.
والثاني كون الشيء جائز الرؤية مع حضوره للحاسة بأن تكون الحاسة متلفتة إليه.
ولم يعرض هناك ما يضاد الإدراك كالنوم والغفلة والتوجه إلى شيء آخر.
والثالث مقابلته للباصرة في جهة من الجهات أو كونه في حكم المقابلة كما في المرئي بالمرآة.
والرابع عدم غاية الصغر فإن الصغير جدا لا يدركه البصر قطعا.
والخامس عدم غاية اللطافة بأن يكون كثيفا.
أي ذا لون في الجملة وإن كان ضعيفا.
والسادس عدم غاية البعد وهو مختلف بحسب قوة الباصرة وضعفها.
والسابع عدم غاية القرب.
فإن المبصر إذا التصق بسطح البصر.
بطل إدراكه بالكلية.
والثامن عدم الحجاب الحائل وهو الجسم الملون المتوسط بينهما.
وهناك شرط تاسع هو أن يكون مضيئا بذاته أو بغيره.
ولم يذكره هاهنا لكونه مذكورا في بحث الكيفيات المبصرة مع أنه يمكن إدراجه في حضوره للحاسة المعتبرة في الشرط الثاني.
ثم لا نعقل من هذه الشرائط في حق رؤية الله تعالى إلا سلامة الحاسة وصحة الرؤية لكون الست البواقي منها مختصة بالأجسام.
وهما أي الشرطان المعقولان في رؤيته حاصلان الآن فوجب حصول رؤيته.
والجواب عن هذه الشبهة.
أما أولا فهو أنا لا نسلم وجوب الرؤية عند اجتماع الشروط الثمانية وذلك لأن دليلكم وإن دل عليه لكن عندنا ما ينفيه لأنا نرى الجسم الكبير من البعيد صغيرا.
وما ذلك إلا لأنا نرى بعض أجزائه دون البعض مع تساوي الكل في حصول الشرائط فظهر أنه لا تجب الرؤية عند اجتماعها.
لا يقال يتصل بطرفي المرئي من العين خطان شعاعيان كساقي مثلث قاعدته سطح المرئي ويخرج منها أي من العين إلى وسطه خط قائم عليه أي على سطحه يقسم ذلك الخط المثلث المذكور إلى مثلثين قائمي الزاوية الواقعة على جنبتي الخط القائم فيكون الخط الوسط وترا لكل واحدة من الزاويتين الحادتين.